عنب بلدي – لمى دياب
في خطوة لافتة، أعلن حزب "العمال الكردستاني" في 25 تشرين الأول الماضي، عن سحب جميع قواته من الأراضي التركية إلى شمالي العراق. جاء هذا القرار استجابة لنداء من مؤسس الحزب، عبد الله أوجلان، المسجون حاليًا، بهدف حل الحزب ونزع سلاحه، وذلك ضمن مساعي تحقيق "تركيا خالية من الإرهاب"، حيث تعتبر تركيا الحزب منظمة إرهابية.
أُعلن عن هذا الانسحاب خلال مؤتمر صحفي عقده قادة من الحزب في منطقة جبال قنديل بشمالي العراق، وأوضحوا أن الهدف منه هو تجنب أي تصعيد أو اشتباكات غير مرغوبة داخل تركيا. يمثل هذا الانسحاب منعطفًا هامًا في المشهد السياسي للمنطقة، إذ يضع حدًا لصراع دام أربعة عقود بين تركيا والحزب، مع نقل عناصر الحزب إلى مناطق "الدفاع المشروع" في إقليم كردستان العراق، وفقًا للبيان.
هذا التحرك، الذي يأتي في سياق إعادة تقييم التنظيم الكردي لاستراتيجياته العسكرية والسياسية، يثير تساؤلات حول مستقبل القضية الكردية في كل من سوريا وتركيا والعراق، ويفرض تحديات جديدة على القوى الإقليمية والدولية ذات النفوذ في المنطقة.
"قسد" كأداة تنفيذية لـ"PPK"
يرى المحلل السياسي حسن النيفي، في حديث مع عنب بلدي، أن انسحاب عناصر من حزب "العمال الكردستاني" (PPK) من تركيا إلى العراق والجزيرة السورية، يأتي في إطار المشروع التركي لتفكيك الحزب، وهو مشروع يجري العمل عليه منذ عامين. وأضاف أنه إذا كانت الاستجابة السياسية لقرار رئيس الحزب، عبد الله أوجلان، بحل الحزب وإلقاء السلاح، فإن الاستجابة الميدانية الطبيعية تتمثل في الانسحاب من تركيا والتوجه إلى العراق وسوريا، معتبرًا ذلك المسار الطبيعي له.
وأوضح النيفي أن هذا الانسحاب لن يؤثر على تحالف القوى في شمال شرقي سوريا، لأن وجود الحزب في المنطقة ليس جديدًا، بل يعود إلى ما قبل المشروع التركي وقرار الحزب بحل نفسه. ويعزو ذلك إلى أن الحزب هو من يقود العمليات العسكرية من وراء الكواليس، ويوجه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مؤكدًا أن تركيا تحارب الحزب في سوريا كما تحاربه على أراضيها.
وأشار إلى أن قيادات الحزب كانت تدير وتخطط للمعارك التي تخوضها "قسد"، والتي ستظل الأداة التنفيذية له، حتى في حال انتقال هذه القيادات إلى العراق، حيث ستظل قادرة على إدارة المعركة من خلال ذراعها الأساسية "قسد".
التداعيات ومستقبل "قسد"
أكد النيفي أن القرار لن يخلف تداعيات مباشرة على "قسد" في شمال شرقي سوريا، لأن حزب "الاتحاد الديمقراطي" (PYD)، الذي يعتبر فرعًا من حزب "العمال الكردستاني"، قد تنصل من قرار أوجلان، مدعيًا أنه يخص الكرد في تركيا ولا علاقة له بالسوريين. وأشار إلى أن "الحزب يتخذ موقفًا متذبذبًا، إذ يعتبر نفسه حزبًا سوريًا في مراحل، ويعود لارتباطه مع حزب (العمال الكردستاني) عندما تقتضي المصلحة".
ويعزو النيفي هذا التذبذب إلى أن "قسد" تستمد دعمها من الولايات المتحدة، ما يجعلها بمنأى عن التأثر بهذا القرار. وتابع أن المعيار الأساسي لبقاء "قسد" وقواتها هو استمرار الدعم الأمريكي، فهي تغير مواقفها وتصبح أكثر مرونة، وتقدم تنازلات عندما تلمس انحسارًا لهذا الدعم، وفي المقابل، طالما أن الموقف الأمريكي منها ثابت، فلن تكون هناك تداعيات عليها.
مستقبل "قسد" مسألة لا تخص حزب "العمال الكردستاني" بقدر ما تحدده العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، بحسب المحلل حسن النيفي، إذ تُحل القضايا المتعلقة بها بالتفاوض بين الطرفين، وعدم تعرض "قسد" لأي عملية عسكرية سواء من جانب تركيا أو من سواها مرتبط بالدعم الأمريكي لها فقط، وهذا الأمر مرهون بالتفاهمات المستقبلية بين واشنطن وأنقرة، التي لا تزال مجهولة المعالم، ربما لوجود خلافات في وجهات النظر بينهما، وفق ما ذكره النيفي.
تسوية مستدامة للقضية الكردية
مدير "المركز الكردي للدراسات"، نواف خليل، اعتبر في حديث إلى عنب بلدي، أن انسحاب حزب "العمال الكردستاني" يعد التزامًا منه بدعم مسار السلام، وتأكيدًا على خياره الاستراتيجي، الذي أُطلق برسالة من رئيس الحزب، في شباط الماضي، تلاها انعقاد المؤتمر الـ12 للحزب، ثم عملية حرق السلاح.
وجاء الانسحاب الحالي لتعزيز هذا المسار ودفع الجهود نحو إيجاد تسوية مستدامة للقضية الكردية داخل تركيا، وفق خليل. وأوضح أن انسحاب الحزب إلى إقليم كردستان العراق لا علاقة له بالوضع في شمال شرقي سوريا، مشيرًا إلى أنه قد يعزز فرص التفاهم بين الحكومة السورية و"قسد"، لأن استمرار عملية السلام بين الحزب والسلطات التركية يزيد من احتمالية عدم تدخل تركيا والضغط على حكومة دمشق للوصول إلى تفاهم.
وأضاف خليل أن مطالب "الإدارة الذاتية" والأحزاب الكردية و"قسد" ثابتة، بينما مواقف الحكومة السورية تتغير بعد كل لقاء دولي. "إذ كانت تركيا جادة في العملية السياسية فستسحب قواتها من عموم سوريا، ليس فقط من رأس العين وتل أبيض وعفرين"، بحسب خليل.
ولفت إلى أن جدّية تركيا في مسار السلام ستتجلى في عدم عرقلتها المفاوضات بين "الإدارة الذاتية" و"قسد" من جهة والحكومة السورية من جهة أخرى، وعدم عرقلتها الاعتراف الدستوري بالكرد في سوريا، أو المطالب بتطبيق اللامركزية في عموم سوريا، بما فيها المناطق الشمالية الشرقية، والذي يعد مطلبًا كرديًا رسميًا جرى الإجماع عليه من قبل جميع الأحزاب الكردية في 26 من نيسان الماضي.
وتابع خليل أن انسحاب الحزب سيسهم في تعزيز العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان العراق، وهو ما بدا جليًا في قرار رفع الحظر الجوي عن مطار "السليمانية"، الذي كان قد فرض نتيجة الاتهامات التي وجهتها تركيا إلى الاتحاد الوطني الكردستاني بعلاقته مع الحزب.
وأكد أن هذا "التغير سيكون له صدى في عموم الشرق الأوسط"، فإذا نجحت تركيا في حل قضيتها الكردية محليًا من خلال إدخال التعديلات الدستورية المطلوبة، فسيمهد ذلك الطريق أمام توجيه القضية الكردية في إيران وسوريا نحو حلول مستدامة.
تأسيس حزب “العمال الكردستاني”
أسس عبد الله أوجلان حزب "العمال الكردستاني" في جنوب شرقي تركيا عام 1978، على أسس أيديولوجية مستقاة من الأفكار الماركسية اللينينية، لإقامة دولة كردية مستقلة، وفق ما ذكرته وكالة "رويترز".
الحزب حمل السلاح ضد تركيا عام 1984، ومنذ ذلك الوقت قتل ما يقارب 40 ألف شخص في هذا الصراع.
أُلقي القبض على أوجلان عام 1999، وحُكم عليه بالإعدام من قبل محكمة تركية، ولكن تم تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة في عام 2002، بعد إلغاء حكم الإعدام، وفق "رويترز".
حدة الاقتتال تراجعت بعد اعتقال مؤسس الحزب، كما تمت العديد من اتفاقات وقف إطلاق النار أحادية الجانب من قبل الحزب، وأدى ذلك إلى انسحاب المقاتلين من تركيا. كما أُدرج الحزب على لوائح المنظمات الإرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي تشرين الأول 2024، صرح دولت بهتشلي، زعيم حزب "الحركة القومية" والحليف السياسي للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنه اقترح إطلاق سراح أوجلان إذا أعلن انتهاء تمرد الجماعة التي يتزعمها. وأيّد حزب "العدالة والتنمية" الحاكم الذي يتزعمه أردوغان الاقتراح، وأجرى زعماء حزب "المساواة والديمقراطية للشعوب"، الذي يسعى إلى مزيد من الحقوق والحكم الذاتي للكرد، محادثات مع أوجلان في سجنه.