في ساحة تعج بالسائقين الرجال، يتردد صوت "تاكسي مدام؟ تاكسي أستاذ؟" بصوت فريد، تسعى لإثبات وجودها في سوق يرفض الاعتراف بها. نظرات الاستغراب تلاحقها، لكنها تظل ثابتة، منتظرة راكباً لا يكترث لجنس السائق، بل لوجهته فقط. تسألها إحداهن: "أنتِ تسوقين؟" فتجيب: "نعم، وأنتظر زبوناً جريئاً." تضحكان وتنطلقان معاً نحو السيارة القريبة.
ترفض السائقة الشابة، التي تعمل في شوارع دمشق، الكشف عن اسمها، حتى اسمها الأول، مبررة ذلك بأسباب خاصة، ومؤكدة أن الأمر لا يتعلق بنظرة المجتمع أو الرغبة في إخفاء هويتها. اختارت أن تُعرّف عن نفسها باسم "سامية التي تعيل أيتام شقيقتها".
لم يكن شائعاً قبل سنوات عديدة رؤية امرأة تقود سيارة أجرة، لكن سنوات الحرب والأزمة المعيشية دفعت العديد من النساء إلى خوض مهن جديدة لم يعتدها المجتمع، مثل قيادة سيارات الأجرة. لكن سامية ترى الأمر بمنظور مختلف، مؤكدة أن هناك 5 نساء على الأقل عملن كسائقات تاكسي في العاصمة منذ 15 عاماً، لكنهن لم يكنّ ظاهرات في العاصمة الكبيرة.
دفعت سنوات الحرب السورية وما رافقها من أزمات معيشية الكثير من النساء إلى اقتحام مجالات عمل غير مألوفة، مثل النقل العام، الميكانيك، والأعمال الحرة. لم يعد خروج المرأة عن الأدوار التقليدية مجرد خيار شخصي، بل ضرورة للبقاء، مما ساهم تدريجياً في تغيير بعض الصور النمطية.
كان هناك 5 نساء على الأقل يعملن كسائقات تاكسي في العاصمة منذ زمن بعيد قدرته سامية بـ15 عاماً، لكنهنّ لم يكنّ واضحات في العاصمة الكبيرة التي يبدو أنها تبتلع كل شيء وتجعله غير مرئي حتى سائقة سيدة!
من الأعمال الإدارية إلى سائقة
سامية، التي تبلغ من العمر نحو 40 عاماً، كانت تعمل في شركة خاصة في الأعمال الإدارية، وهي خريجة معهد متوسط تجاري. بدأت العمل كسائقة قبل نحو عام ونصف، حين كانت تبحث عن عمل بمردود جيد، لكن الخيارات كانت محدودة، وكان لابد من البحث عن "عمل ماشي بالبلد". وتضيف: «بسبب الركود الاقتصادي العديد من الأعمال توقفت تماماً، ومعظمها لم يعد ينتج مردوداً كافياً، المواصلات من ضمن الاحتياجات الرئيسية التي كان تأثرها أقل بالوضع العام ومردودها أعلى فاخترتها».
فكرت سامية بالاستثمار بنفسها، وكان لديها شغف بالإعلام والصحافة: «اليوم لحتى تعملي أي مشروع أو تستثمري بنفسك لتصيري مذيعة، بدك راسمال تصرفي على حالك بالدورات والتدريب، هذا المردود من وين بدو يجي؟ أكيد بدو عمل ودخل».
تتحدث سامية بطلاقة عن الحرب، الوضع الاجتماعي، النساء، وحتى عن الركود الاقتصادي. ثم تتوقف لأن رجلاً تجاوزها بطريقة غير صحيحة، لكنها لا تغضب، بل تركز في القيادة وتقول: «مشكلة كل السائقين والسائقات إنن ما بيحفظوا الإشارات والشاخصات صح وبيحبوا يتجاوزوها وما بعرف ليش».
سامية خريجة معهد متوسط تجاري، بدأت العمل كسائقة قبل نحو عام ونصف، حينها كانت تريد عملاً بمردود جيد، لكن الخيارات ضاقت جداً وكان لابد من البحث عن “عمل ماشي بالبلد”
تتابع حديثها وعينها على الطريق، قائلة: «يقولون إننا نحن النساء نستطيع التركيز بعدة أعمال معاً، أعتقد هذه ميزة عظيمة يحتاجها السائقون والسائقات في هذا الزحام»، ثم تبتسم وتضيف أنها محظوظة لأنها لا تدخن، وإلا كانت ستفقد جزءاً من تركيزها.
عمل النساء في قطاعات غير رسمية، كسائقات التاكسي بسيارات خاصة، يسلط الضوء على هشاشة هذا النمط من التشغيل، إذ لا يوفر لهن أي حماية قانونية أو اجتماعية، ويجعلهن عرضة للمساءلة أو الإقصاء بسهولة، في ظل انعدام بدائل عمل مستقرة.
تمييز ومحاولة إقصاء
ليس لدى سامية "مدير يقول لها تعي وروحي"، لكنها تواجه تحديات مع بعض عناصر الشرطة، الذين يستهجنون عملها كسائقة سيارة، وتقول إنهم يعرقلون عملها بطريقة مبطنة، بحجة أنها تقود سيارة خاصة وتعمل عليها كسيارة عمومي، وحين تشير إلى رجال يعملون كسائقي تاكسي عمومي على سيارة خاصة، يقول لها الشرطي: «ليش بدك تخربي عليه عندو عيلة بدو يطعميها».
تشعر سامية بضيق كبير وتخبره بأنها تعيل أطفال شقيقتها الأيتام أيضاً ووالدها متوفى، لكنها لا تجد أي تعاطف ويصر على إبعادها بحجج مختلفة.
تتهم سامية بعض عناصر الشرطة بالتضييق عليها وممارسة نوع من التمييز الصامت بينها وبين زملائها السائقين الذكور.
طريقة تعامل بعض عناصر الشرطة مع سامية، مقارنة بزملائها الذكور، تكشف عن شكل من أشكال التمييز الصامت داخل المؤسسات، حيث يُحمى الرجل باسم "الإعالة"، بينما تُساءل المرأة حتى وهي المعيلة الوحيدة، هذا التباين يعبر عن ثقافة مؤسساتية تفتقر إلى العدالة الجندرية.
باستثناء تصرف بعض عناصر الشرطة ونظرات الاستغراب، لا تواجه سامية أي تحديات أخرى، وتحظى بدعم عائلتها الصغيرة، لكنها تتلقى بعض التعليقات السلبية من عائلة والدتها، «ساكنين بالريف والبيئة عندن منغلقة بعكس الشام هون أكثر انفتاحاً».
سامية نفسها ليست من دمشق، وتنحدر من باب السباع في حمص، لكن عائلة والدها أتت إلى دمشق منذ زمن بعيد. لا تشعر بأي قيود تمنعها من متابعة عملها مساء، فالشام لا تنام، والوضع الأمني مستقر، كما أن حركة العمل تزداد مساء خصوصاً من قبل النساء اللواتي يطلبنها لأنهن يرين فيها عامل أمان.
وجود نساء في مهن تقدم خدمات مباشرة، مثل قيادة التاكسي، لا يشكل تمكيناً اقتصادياً فقط، بل يخلق شعوراً مضاعفاً بالأمان لدى النساء، خصوصاً في التنقل الليلي أو في الحالات الخاصة، حين تطلب النساء "سائقة تاكسي" دون تردد، فإنهن يبحثن عن مساحة من الثقة والخصوصية.