الثلاثاء, 4 نوفمبر 2025 01:00 AM

صمود في الداخل السوري: لماذا سردية الباقين ليست ترفاً بل ضرورة للمستقبل؟

صمود في الداخل السوري: لماذا سردية الباقين ليست ترفاً بل ضرورة للمستقبل؟

انتشرت في السنوات الأخيرة سردية مبسطة تقسم السوريين إلى قسمين: أولئك الذين بقوا في البلاد تحت سيطرة النظام أو غير قادرين على الفعل، وأولئك الذين خرجوا وأصبحوا الفاعلين الوحيدين في الثورة والنضال. ومع مرور الوقت، تعززت هذه السردية، ومنحت الحق في الكلام والفعل لمن عاد من الخارج، وجردت منه من بقي في الداخل، إلا في حالات رمزية محدودة.

يرى أنس جوده أن هذه الثنائية تهين الحقيقة وتظلم ملايين السوريين الذين قرروا البقاء، ليس تأييداً للنظام، بل إيماناً بأن البقاء هو موقف ومسؤولية. هؤلاء، من كتاب وتجار وموظفين وشيوخ وأمهات وآباء، جاهدوا للحفاظ على وجودهم وتربية أبنائهم ومنع فراغ البلاد من أهلها، مدركين أن الهروب الجماعي يعني ترك الوطن مشرعاً.

منذ بداية الحراك، روجت المعارضة في الخارج، عبر المجلس الوطني وتكتلاته، لفكرة الخروج كخطوة "مؤقتة" تمهيداً لعودة قريبة بعد سقوط النظام، برسائل واضحة: "غادروا الآن، فالتحرير مسألة أشهر". وصور البقاء كفعل لا أخلاقي، وكأن من ظل في البلاد قد اختار الخضوع أو المسايرة. وهكذا، نزعت الشرعية عن الداخل كفضاء للفعل المدني والسياسي، وأسبغت البطولة حصراً على الخارج، حتى بات العمل داخل البلاد يُعدّ شبهة.

لكن الوقائع الميدانية رسمت صورة مختلفة تماماً. ففي ذروة الحرب والانهيار، تشكلت شبكات تضامن محلية مذهلة: مبادرات إغاثية احتضنت النازحين والوافدين من مناطق الصراع، ورجال دين ومجتمعات مدنية أقاموا جسوراً من التعليم والرعاية والتواصل من دون تمويل خارجي أو تغطية إعلامية، ومدرسات ومدرسون عملوا بما يشبه التطوع للحفاظ على سلامة الأجيال ومنع خطاب الكراهية ووأد سرديات الحقد قبل أن تولد.

نشأت مساحات مدنية بنت تفاهمات محلية وأطلقت مبادرات ثقافية وتنموية، وبرز داخل بعض مؤسسات الدولة فعل مدني هادئ تقوده جهود فردية ومؤسسية راكمت خطاباً واقعياً للتغيير. مناضلات ومناضلون حقوقيون وثقوا وعملوا تحت الرعب، وكتاب وفنانون وأدباء أصروا على البقاء والإنتاج بكل ما أتيح لهم من أدوات، محافظين على نبض الحياة الثقافية رغم الحصار والانقطاع، فكانوا هم "الباقون" لا يأساً ولا عجزاً بل إرادة وعزيمة.

نشأت مبادرات حوارية أبقت على قلتها "وميسلونيتها" مساحة ما من الفعل والقول المختلف حتى لا يقال أن البلاد ماتت ولم يبق فيها صوت، وحتى بعض الشخصيات والأحزاب التي كانت جزءاً من المعارضة السياسية ومن الائتلاف نفسه، واصلت العمل في الداخل بطرق مختلفة، حافظة جذوة الفعل المدني من الانطفاء.

هذه الأنشطة لم تكن امتداداً لسياسات النظام، ولا تواطئاً معه، بل شكلاً من المقاومة المدنية الهادئة التي حافظت على شروط الحياة وسط الانهيار، وأثبتت أن الداخل لم يكن فراغاً بل حاضنة صلبة للقيم الاجتماعية والوطنية. ورغم ذلك، تجاهل كثير من المعارضين هذه التجارب لأنها لا تتناسب مع سردياتهم أو لأنها تذكرهم بفشلهم في بناء نموذج بديل حقيقي.

تعامل بعضهم مع الداخل بكل جغرافياته التي ظهرت لاحقاً بعقلية "الوصي الأبيض" الذي يحتكر الحرية في المنفى، بينما يستغل جهود العاملين في الداخل لجمع التمويل أو إعداد التقارير والأوراق التحليلية، تاركاً لهم الفتات من الموارد والاعتراف.

الاشتباك مع الواقع من داخل البلاد، بمواجهة السلطات، "والقول والاشتغال" وبناء المبادرات، وتحمل المشاق اليومية، هو الفعل السياسي الأكثر أصالة. فالبقاء ليس ضعفاً، بل شجاعة مدنية ترفض الانقراض، وتتمسك بحق الحياة في المكان نفسه الذي أراد الجميع تركه. وبالمقابل، فإن هناك ممن اختار الرحيل أو أُجبر عليه خاض نضاله الأصيل في ميدان آخر لا يقل شرفاً.

النضالان ليسا متناقضين، بل متكاملان، ولا يمكن لأي مشروع وطني أن ينهض ما لم يعترف بشجاعة الداخل كما يعترف بجهد الخارج. الاعتراف بهذا التعدد لا يعني تبريراً لسلطة أو تبرئة طرف، بل استعادة التوازن الأخلاقي في السردية الوطنية. فالسوريون الذين بقوا لم يكونوا رهائن ينتظرون التحرير، بل مواطنين صنعوا الحياة وسط الركام. واستعادة أصواتهم وتقدير جهودهم والاعتراف بسرديتهم ليست ترفاً، بل شرطاً أساسياً لبناء مستقبل لا يقصي أحداً.

#سوريا_لك_السلام (أخبار سوريا الوطن2-صفحة الكاتب)

مشاركة المقال: