الأربعاء, 5 نوفمبر 2025 01:21 AM

سوريا: أزمة السكن تشتد.. الإيجارات تحرق جيوب المواطنين من دمشق إلى دير الزور

سوريا: أزمة السكن تشتد.. الإيجارات تحرق جيوب المواطنين من دمشق إلى دير الزور

تشهد سوريا، في أعقاب فترة نظام الأسد، أزمة سكن حادة وغير مسبوقة، حيث تستنزف الإيجارات القدرة الشرائية للمواطنين في ظل غياب الرقابة القانونية على السوق العقارية. مراسلو «سوريا 24» وشهود وخبراء يرسمون صورة قاتمة للوضع المعيشي من دمشق، المدينة الأغلى، مرورًا بالرقة ودير الزور وريف دمشق، وصولًا إلى حمص وحماة وحلب وإدلب وطرطوس، حيث تتداخل الحاجة مع الاستغلال والمأساة مع الإهمال الرسمي.

تأثير الدمار على سوق العقارات:

أثر الصراع السوري بشكل كبير على البنية التحتية السكنية، مما فاقم أزمة الإيجارات. البنك الدولي قدر كلفة إعادة الإعمار في سوريا بنحو 216 مليار دولار، بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب المدمرة. الأضرار المادية المباشرة للبنية التحتية والمباني بلغت 108 مليارات دولار، منها 52 مليارًا في البنية التحتية وحدها، مع اعتبار حلب وريف دمشق وحمص الأكثر تضررًا. هذه الكلفة تعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي لسوريا لعام 2024، مما يعكس حجم التحدي أمام السلطة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق. جان كريستوف كاريه، المدير الإقليمي للبنك، أكد استعداد البنك الدولي لدعم جهود التعافي والتنمية طويلة الأجل في سوريا. تتوزع الكلفة بين 75 مليار دولار للمباني السكنية، و59 مليارًا للمنشآت غير السكنية، و82 مليارًا للبنية التحتية.

دمشق: غلاء فاحش للإيجارات:

في دمشق، تستمر أسعار الإيجارات في الارتفاع بشكل غير مسبوق، مما يجعلها المدينة الأعلى تكلفة في البلاد. مراسل «سوريا 24» رصد تفاوتًا كبيرًا في الإيجارات بين الأحياء، مع سعر صرف الدولار الواحد الذي يعادل 11,400 ليرة سورية. في الأحياء الراقية مثل المالكي وكفرسوسة، تتراوح الإيجارات بين 1300 و4000 دولار شهريًا للشقق الفاخرة، بينما تسجل الفيلات في المزة ما بين 800 و1500 دولار شهريًا. في مناطق مثل مشروع دمر، أبو رمانة، الشعلان، شارع بغداد، المزرعة، والمهاجرين، تتراوح الإيجارات بين 600 و900 دولار. وفي القصاع، باب توما، القصور، والعدوي، بين 450 و760 دولارًا. وتنخفض نسبيًا في الميدان، الزاهرة، ركن الدين، مساكن برزة، ومزة جبل، حيث تتراوح بين 350 و600 دولار. وفي أطراف العاصمة مثل دويلعة، الطبالة، القزاز، ببيلا، نهر عيشة، مزة 86، ومرتفعات ركن الدين، تتراوح الإيجارات بين 250 و350 دولارًا، فيما تُعرض المنازل الصغيرة أو القديمة أو التي تحتاج إلى صيانة بنحو 250 دولارًا فقط. وفي ضواحي العاصمة مثل قدسيا، سيدي مقداد، نهر عيشة، صحنايا، وجديدة عرطوز، تتراوح الإيجارات بين 150 و200 دولار، بينما تبدأ في معضمية الشام، عرطوز، قطنا، الهامة، عربين، وسقبا من 40 دولارًا للمنازل القديمة وتبلغ 150 دولارًا للمنازل النظيفة أو المجددة.

أبو عمر، العائد من تركيا، يصف تجربته قائلاً: "ظننت أن العودة ستمنحني الاستقرار، لكن الواقع كان قاسيًا. لم أجد منزلًا في دمشق يناسب دخلي، واضطررت لاستئجار منزل في الضواحي بمبلغ 150 دولارًا".

محمود عبد المعطي، العائد من أوروبا، اختار استئجار منزل في مجمع سكني بمنطقة الصبورة، في محيط دمشق، بمبلغ 800 دولار شهريًا، مع دفع إيجار عام كامل مقدمًا.

قدوم نحو 25 ألف موظف حكومي من الشمال إلى دمشق واستقرارهم، إضافة إلى عودة المغتربين والمهجرين، زاد من الضغط على سوق العقارات. نزوح عشرات آلاف العائلات من المدن المدمرة أدى إلى نقص حاد في المعروض السكني وارتفاع الأسعار.

ريف دمشق: ارتفاع جنوني في الأسعار:

في ريف دمشق، وتحديدًا في مدينة التل، قفزت الإيجارات إلى مستويات خيالية، حيث يتراوح إيجار الشقة الفارغة بين مليون ونصف وثلاثة ملايين ليرة سورية شهريًا، بينما تبدأ الشقق المفروشة من ثلاثة ملايين ليرة وما فوق. المستأجرون يواجهون صعوبات كبيرة في العثور على شقة شاغرة، ويشتكون من ضعف الرقابة وجشع أصحاب العقارات. الحال مماثل في مناطق أخرى مثل دوما، جديدة عرطوز، وكفرسوسة، حيث تبدأ الإيجارات من مليون ونصف ليرة للشقة العادية. أسباب الارتفاع تشمل التضخم، عودة المهجرين، ومحدودية الرقعة العمرانية.

حمص وحماة: الإيجارات تلتهم الدخل:

في حمص، يشير محمود سعيد، العامل في مجال العقارات، إلى ارتفاع حاد في متوسط الإيجارات، واصفًا الزيادة بأنها "تصاعدية بشكل مرعب". بعض المنازل التي كان إيجارها 100 دولار أصبحت بـ 500 دولار. تتراوح الإيجارات حاليًا في أحياء مختلفة بين 200 وألف دولار شهريًا. نسبة الدمار الكبيرة وجشع بعض المغتربين ساهما في ارتفاع الأسعار. مدينة حماة وريفها تشهدان ارتفاعًا مماثلًا، حيث بلغ سعر إيجار الشقة نحو 250 دولارًا. المواطن حسين حلاق يصف الوضع بأنه "وهمي"، حيث يفوق الإيجار قدرته المالية. وفي مدينة سلمية بريف حماة، تواجه الأسر صعوبات مماثلة بسبب الارتفاع المفاجئ في الإيجارات.

حلب: من دمار الحرب إلى انفجار الإيجارات:

في حلب، ارتفعت الإيجارات بنحو 700٪ مقارنة بالعام الماضي، خصوصًا في الأحياء التي تم تحريرها. في الأحياء الغربية تصل الإيجارات إلى 1000 دولار شهريًا، مع اشتراط دفع الإيجار لمدة عام كامل مقدمًا. في المقابل، يبلغ متوسط الإيجار في حي الإذاعة نحو 400 دولار شهريًا، بينما تتراوح الأسعار في الأحياء الشرقية المتضررة بين 150 و300 دولار. أبو محمد، صاحب مكتب عقاري، يعزو الارتفاع إلى الضغط الكبير الذي يشهده سوق العقارات، وعودة المهجرين واللاجئين، وارتفاع تكاليف الترميم والبناء، وغياب الرقابة.

إدلب: ليست ملاذًا آمنًا:

في الشمال السوري، تأثرت مدينة إدلب بارتفاع أسعار الإيجارات بشكل ملحوظ، لتصل في بعض المناطق إلى الضعف مقارنة بالعام الماضي. منتهى محمد، إحدى مهجّري مدينة العيس، تقول إن إيجار منزلها ارتفع من 100 إلى 200 دولار شهريًا. وفي حي الجامعة، بلغ متوسط الإيجار نحو 250 دولارًا شهريًا، بسبب عودة المهجرين من تركيا والدمار الواسع الذي طال المدن الأخرى.

الساحل السوري: السياحة الداخلية ترفع الأسعار:

في الساحل السوري، أنعشت السياحة الداخلية سوق الإيجارات في طرطوس، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة تتراوح بين 15٪ و20٪ مقارنة بالعام الماضي، وبلغ متوسط إيجار الشقق ذات التجهيز الجيد بين 3 و4 ملايين ليرة سورية شهريًا. هذا الارتفاع يعزى إلى زيادة الطلب على المساكن في المدينة الساحلية، وارتفاع تكاليف المعيشة والصيانة.

دير الزور: ندرة في العرض وزيادة في الطلب:

في الشرق السوري، وصلت أسعار الإيجارات في دير الزور إلى مستويات غير مسبوقة بعد التحرير، حيث بلغ متوسط الإيجار نحو مليون ونصف ليرة سورية شهريًا (حوالي 150 دولارًا)، بعد أن كان قبل التحرير لا يتجاوز 20 دولارًا فقط. محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أعلن عن وجود أكثر من 35 ألف مبنى مدمّر في المحافظة. معتز الشعيب، صاحب مكتب عقاري، يقول إن الأهالي يشكون بشدة من ندرة بيوت الإيجار، بسبب الضغط الكبير والحاجة الملحة للمساكن بعد عودة آلاف المهجرين.

الرقة: الطاقة الشمسية تحدد الأسعار:

في الرقة، يشهد سوق الإيجارات ندرة واضحة في المعروض، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل لافت. متوسط الإيجارات يتراوح بين 250 و350 دولارًا شهريًا للشقق المفروشة والمزودة بأنظمة طاقة شمسية.

تطور أسعار الإيجارات بين عامي 2023 و2025:

فريق التحرير في منصة «سوريا 24» رصد قفزة حادة في مؤشرات الإيجار السكني بين عامي 2023 و2025، حيث ارتفعت الأسعار في معظم المحافظات بنسب تراوحت بين 250 و500 بالمئة. في دمشق، تضاعفت الأسعار في معظم المناطق بين ثلاث وخمس مرات. وفي حلب، ارتفع متوسط الإيجار بين 200 و900 بالمئة. وفي حمص وحماة، ارتفع متوسط الإيجار بنسبة تقارب 700 بالمئة. وفي المدن الساحلية مثل طرطوس، ارتفع متوسط الإيجار بنسبة 150 بالمئة. وفي دير الزور، ارتفع الإيجار بنسبة تقارب 650 بالمئة. هذه الأرقام تُظهر أن التحول في سوق الإيجارات كان انفجاريًا، ناجمًا عن انهيار العملة المحلية وعودة السكان، ما ولّد فجوة حادة بين العرض والطلب.

التنظيم العمراني والتمويل هما مفتاح الحل:

المهندس حسام الدين فاعل، خبير إعادة الإعمار والتنمية المستدامة، يرى أن الحل الجذري لأزمة السكن يبدأ من تسريع إقرار المخططات التنظيمية التفصيلية. وأوضح أن المشكلة الأساسية تكمن في ضعف كفاءة الكوادر في بعض البلديات، لا سيما في المدن الكبرى، إضافة إلى بطء عملية الانتقال من المخطط العام إلى المخططات التفصيلية، ثم إلى مخططات التسوية، وهي عملية تتطلب وقتًا وجهدًا وخبرة هندسية عالية.

خبير اقتصادي: السكن في سوريا حق لا امتياز:

الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي يرى أن أزمة السكن في سوريا تحولت إلى تحدٍّ وطني شامل يمس البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. ويقول إن أزمة السكن تُعد من أخطر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد حاليًا، موضحًا أنها ليست أزمة طارئة، بل نتيجة تراكمات تنظيمية وسياسات إسكانية غائبة منذ سنوات طويلة. ويشير إلى أن الفجوة بين تكلفة السكن ودخل المواطن باتت صادمة. ويضيف أن غياب التمويل العقاري طويل الأجل، وضعف البنية المؤسسية في المصارف وشركات التطوير، إضافة إلى تراجع دور الدولة في تنظيم السوق العقاري وتركه للمضاربات والاحتكار، ساهمت جميعها في تعميق الأزمة. ويشدد على أن الحق في السكن يجب أن يُعاد إلى موقعه الطبيعي كجزء من كرامة المواطن السوري، قائلًا: "السكن في سوريا يجب أن يكون حقًا إنسانيًا لا امتيازًا طبقيًا".

بين الحق في السكن وتحديات البقاء:

على وقع الدمار والنزوح وتقلص المعروض السكني، خرجت معادلة السكن في سوريا عن نطاق السيطرة. فقد تحول العقار من وسيلة للاستقرار إلى أداة للربح والمضاربة. تقارير دولية تشير إلى أن أكثر من ثلثي السوريين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى. هذا الانفصال بين الواقع الاقتصادي والمعيشي يهدد بمفاقمة الهشاشة الاجتماعية، ويحول أزمة السكن إلى أزمة بنيوية تمس الاستقرار العام.

انعكاسات مستقبلية على سوق السكن:

تشير المعطيات إلى أن استمرار غياب التنظيم العمراني وضعف التمويل السكني سيؤديان إلى مزيد من الضغط على المدن الكبرى. ويرى خبراء أن استقرار الإيجارات مستقبلًا مرهون بمدى قدرة الحكومة الانتقالية على إطلاق مشاريع إسكان ميسرة، وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص، وتفعيل التشريعات التي تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر.

لمشاهدة الفيديو المصور الخاص بهذا التحقيق:

“أُعدّ هذا التحقيق الصحفي بمشاركة فريق التحرير وفريق المراسلين/ـات في موقع سوريا 24، إلى جانب قسم الإنتاج المرئي والسوشال ميديا في الموقع”

مشاركة المقال: