أثار قرار تعديل أسعار التعرفة الكهربائية، الذي صدر مؤخرًا، جدلًا واسعًا بين المواطنين وقطاعات الإنتاج من معامل وورشات على حد سواء، خاصة في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها السوريون. ويهدف هذا القرار، بحسب وزارة الطاقة السورية، إلى إصلاح قطاع الكهرباء وتحسين الخدمة، إلا أنه أثار مخاوف واسعة بشأن تأثيره على حياة الناس والأسعار.
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للتعرف إلى رأي السوريين في تعرفة الكهرباء الجديدة، ومدى تناسبها مع مستوى الدخل في سوريا، حيث رأى 84% من أصل نحو 2400 شخص شاركوا في الاستطلاع، أن التعرفة الجديدة لا تناسب الدخل، بينما اعتبر 16% أنها مناسبة.
كما استطلعت عنب بلدي آراء الشارع السوري، وتواصلت مع متخصصين وجمعيات وجهات ذات صلة، لتقديم قراءة أوسع في الأثر المتوقع لقرار رفع أسعار الكهرباء على حياة الناس والأسعار، والتكاليف المترتبة على القرار في مختلف القطاعات الإنتاجية.
كيف تعامل محدودو الدخل مع "كابوس" الشرائح
مع التدهور المستمر في القدرة الشرائية للمواطنين في سوريا، والظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها الكثيرون، أثار خبر تعديل تعرفة الكهرباء موجة من الجدل والغضب بينهم، إذ إنه سيؤثر بشكل مباشر على حياتهم، فبينما يرى بعضهم أن زيادة الأسعار قد تكون ضرورية لمواجهة العجز في قطاع الكهرباء وتطويره، يتساءل آخرون عن مدى قدرة الأفراد على تسديد الفواتير.
باتت فاتورة الكهرباء المرتقبة "كابوسًا" يطارد سامر العلي، موظف حكومي، بين ما يجب دفعه وما يمكن التنازل عنه، كي يتمكن فقط من تسديد الفاتورة في موعدها، في حين يعجز دخله الشهري عن تغطية أبسط احتياجات أسرته. وتقضي أمل الرفاعي، ربة منزل من حي الميدان بدمشق، معظم وقتها في التفكير بكيفية ترشيد استهلاك الكهرباء في منزلها، خشية أن تتجاوز فاتورتها الشهرية حد 300 كيلوواط، الذي رسمته لنفسها كخط "أحمر لا يجوز تجاوزه".
توزع الشرائح والأسعار بحسب ما نشرته الوزارة عبر "فيسبوك":
- الشريحة الأولى بسعر 600 ليرة سورية للكيلوواط الواحد، حتى كمية استهلاك 300 كيلوواط خلال دورة شهرين بنسبة دعم حكومي 60% من سعر التكلفة.
- الشريحة الثانية بسعر 1400 ليرة للكيلوواط الواحد، وتضم أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع والمشاريع الصغيرة التي تستهلك أكثر من 300 كيلوواط خلال دورة شهرين.
- الشريحة الثالثة بسعر 1700 ليرة للكيلوواط الواحد، وتضم المعفيين من التقنين، مثل المؤسسات الحكومية والشركات والمصانع التي تحتاج إلى كهرباء على مدار الساعة.
- الشريحة الرابعة بسعر 1800 ليرة، وتضم المعامل والمصانع والاستهلاك الكهربائي العالي، مثل معامل الصهر وغيرها.
ثلث الراتب للكهرباء
أمين سر جمعية حماية المستهلك والخبير الاقتصادي، عبد الرزاق حبزة، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن عدم تناسب التعرفة الكهربائية الجديدة مع دخل المواطن يعد أمرًا بديهيًا، مشيرًا إلى أن رواتب المواطنين لا تتجاوز مليونًا ونصف مليون ليرة سورية بحدها الأقصى. وأضاف حبزة أن من يتقاضى مليون ليرة، سيدفع نحو 300 ألف ليرة فاتورة كهرباء، أي ما يعادل ثلث راتبه تقريبًا، وهذا لا يتناسب بأي شكل مع الدخل الحالي.
ارتفاع الأسعار.. مخاوف مرتقبة
يبرر زيد لطفي، صاحب محل لبيع اللحم الأحمر في سوق الطبالة، أن رفع الأسعار لم يعد خيارًا بيده، بل ضرورة تفرضها التكلفة، فكل كيلو من اللحم الذي يعرضه على زبائنه يمر عبر سلسلة طويلة من التكاليف، من التبريد والنقل حتى فواتير الكهرباء الشهرية. وأشار أمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، إلى أن ارتفاع أسعار الكهرباء سينعكس فورًا على أسعار السلع والمواد الأولية، إذ تضطر المعامل والمحال التجارية إلى رفع الأسعار بشكل تلقائي.
مدير حماية المستهلك وسلامة الغذاء في الإدارة العامة للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، حسن الشوا، يرى أن القرار الأخير لم ينعكس على أسعار السلع في الأسواق، إذ لم تُسجّل أي زيادة بعد صدور القرار، بحسب بيانات دائرة "سبر الأسعار" التي ترصد حركة الأسعار في جميع المحافظات.
ماذا عن الرقابة؟
حول الإجراءات المتخذة لحماية المستهلكين، قال حبزة، إن الرقابة على الأسواق في الوقت الحالي لن تكون مجدية، لأن المنتج أو التاجر يبرر ارتفاع الأسعار بزيادة التكاليف، خصوصًا في ظل اقتصاد السوق الحر. ونوه إلى أن المخالفات اليوم تقتصر على الإعلان عن الأسعار أو قضايا الغش والتدليس، بينما ارتفاع الأسعار بحد ذاته لا يُعد مخالفة.
فرص الاستدامة وتهديدات الأمن المجتمعي.. تأثير مزدوج
على الرغم من أنه جزء من خطة حكومية لإصلاح قطاع الكهرباء وتحسين استدامته المالية والفنية، فإن القرار الخاص بأسعار الكهرباء قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات المعيشية، خصوصًا لدى الفئات محدودة الدخل، ويزيد الضغوط على القطاع الخاص الذي يتحمل أغلبية تكاليف الإنتاج والتشغيل، بحسب محللين اقتصاديين تواصلت معهم عنب بلدي.
الخبير الاقتصادي والأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة "حماة" الدكتور عبد الرحمن محمد، يعتقد أن تعديل أسعار التعرفة يمثل خطوة أولى ضمن خطة شاملة لإصلاح قطاع الكهرباء، موضحًا أن الحكومة تسعى من خلال هذا الإجراء إلى تأمين استمرارية الخدمة ومنع انهيار المنظومة الكهربائية، وهذا يتطلب تحقيق توازن بين التكلفة الفعلية والإيرادات. في حين وصف الخبير الاقتصادي محمد الحلاق، رفع التعرفة بأنه "معاناة اقتصادية"، تمس جوهر العقد الاجتماعي، وتهدد استقرار المجتمع ككل.
التأثير على القطاع الخاص
الزيادة ستنعكس على القطاع الخاص، بحسب الخبير محمد الحلاق، موضحًا أن أي ارتفاع في تكاليف الطاقة ينعكس على هوامش الربح، فالتاجر أو الصناعي الذي كان يربح 5% فقط، سيضطر إلى رفع الأسعار لتغطية نفقات إضافية، وليس لجني أرباح أكبر كما يُعتقد.
وفي حديثه عن الأجور، أكد الحلاق أن رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي، سيجبر القطاع الخاص على الرفع أيضًا، ما يزيد من تكاليف التشغيل.
خسارة مليار دولار سنويًا
قال مصدران حكوميان لعنب بلدي في وقت سابق، إن استمرار أسعار الكهرباء على ما هي عليه، يسبب خسارة للحكومة بنحو مليار دولار سنويًا، بسبب زيادة ساعات التغذية الكهربائية منذ سقوط النظام من ساعتين تقريبًا إلى ثماني ساعات يوميًا، ما يؤدي إلى زيادة تكاليف إنتاج الكهرباء واستيراد الغاز والفيول اللازم لتشغيل محطات التوليد.
صدمة للصناعيين..
تكاليف تشغيلية زائدة وانعدام التنافسية للمنتج السوري
أثار قرار رفع تسعيرة الكهرباء للمشتركين الصناعيين موجة من الاستياء داخل الأوساط الصناعية التي تعتمد على الطاقة كمكون أساسي في عملية الإنتاج، معتبرين أن التوقيت غير مناسب في ظل الظروف التشغيلية الصعبة، وغياب الاستقرار في أسعار المحروقات ومدخلات الإنتاج.
ويرى عاملون في القطاع الصناعي الحلبي أن القرار سيؤدي إلى زيادة مباشرة في تكاليف التشغيل، ويضعف القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في الأسواق الداخلية والخارجية، خاصة مع الفارق الكبير في أسعار الطاقة بين سوريا ودول الجوار.
تهديد بتوقف الإنتاج
رئيس لجنة منطقة العرقوب الصناعية في حلب، تيسير دركلت، يرى أن أثر القرار يختلف من قطاع إلى آخر، فالصناعات الهندسية لا تتجاوز فيها تكلفة الكهرباء 10% من إجمالي التكاليف، بينما ترتفع النسبة في الصناعات الكيماوية وصهر المعادن إلى نحو 40%. وحذر من أن استمرار رفع الأسعار دون تحسن في القدرة الشرائية للمواطن سيقود إلى حالة ركود.
عودة الضرائب
الصناعي في قطاع النسيج، عبد المنعم ريحاوي، ذكر أن الواقع الصناعي يعاني من عدم استقرار القرارات الاقتصادية، فبعد جهود كبيرة تمكن الصناعيون من إلغاء الضريبة على الكهرباء، وعاد السعر ليرتفع مجددًا إلى 1700 ليرة للكيلوواط الساعي، ليشمل فعليًا الضريبة مجددًا.
الأثر على تكاليف التشغيل
أما المحاضر في جامعة "دمشق" ورجل الأعمال محمد بن مروان أورفه لي، فقال إن قرار تحديد سعر الكهرباء للمشتركين الصناعيين والتجاريين سيزيد الأعباء على الصناعيين، الذين يواجهون أصلًا منافسة من منتجات مستوردة مدعومة في بلدانها، إلى جانب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية محليًا.
السوريون يبحثون عن البدائل
الارتفاع الأخير في أسعار الكهرباء، وما يرافقه من اتساع الفجوة بين الدخل الشهري وتكاليف المعيشة، دفع حسابات المواطنين لاستهلاكهم وتوقعاتهم لفواتير الكهرباء التي ستنتظرهم في نهاية كل دورة كعبء إضافي يثقل كاهل الأسر، إذ بدأ كثيرون البحث عن بدائل مستدامة تؤمّن الطاقة دون الاعتماد على الشبكة العامة بشكل كامل.
الطاقة الشمسية كبديل مستدام
بحسب شركة "xnetron" للطاقة البديلة، يمكن لمنظومات الطاقة الشمسية أن تغطي كامل احتياجات المنازل من الكهرباء في حال تركيبها بشكل مناسب. ويمكن للأسرة العادية التي تملك تجهيزات أساسية، مثل البراد والإنارة والتلفاز والمراوح والغسالة، تركيب منظومة مؤلفة من أربعة إلى ستة ألواح شمسية مع بطارية "ليثيوم" و"إنفرتر" باستطاعة 4 إلى 6 كيلوواط، لتشغيل الأحمال الكهربائية خلال النهار بشكل كامل دون الاعتماد على الكهرباء العامة، أما في الليل، فيتم التحويل إلى البطارية لتغطية الاستهلاك الليلي.
"الأمبيرات".. حل احتياطي للكهرباء
عصام حلاق، من سكان حي السيد علي في حلب، اعتبر خلال حديث لعنب بلدي أن القرار ليس بالضرورة سلبيًا، موضحًا أن المقارنة مع تكلفة "الأمبيرات" تُظهر فارقًا واضحًا في التكلفة، إذ يبلغ متوسط اشتراك "الأمبير" الواحد نحو 280 ألف ليرة شهريًا، ولا يتيح تشغيل أكثر من الإنارة والتلفزيون لساعات محدودة، بينما يمكن للكهرباء النظامية، حتى ضمن الشريحة الثانية، تشغيل معظم الأجهزة المنزلية بحدود معقولة وبتكلفة أقل نسبيًا.
في المقابل، يرى إبراهيم رسلان، من سكان حي الزبدية، أن القرار سيضاعف الأعباء على الأسر محدودة الدخل، معتبرًا أن "الأمبيرات" باتت حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، في حين أن ارتفاع تكلفة الكهرباء النظامية سيجعل الجمع بينهما عبئًا ماليًا كبيرًا.
وأوضح أحمد دربيس، صاحب مولدة "أمبيرات" في حي الجميلية، أن الأهالي ما زالوا منقسمين في موقفهم من استمرار الاشتراك بخدمة "الأمبيرات" بعد صدور قرار رفع سعر الكهرباء المنزلية.
اقتراحات لتخفيف العبء
قدم الدكتور عبد الرحمن محمد مقترحًا يقضي بتقسيم تسعيرة الكهرباء مناطقيًا بحسب مستوى المعيشة، كما دعا إلى تقديم دعم مباشر للأسر الفقيرة، وإطلاق برامج ترشيد استهلاك وتوعية حول تقليل الفواتير، إضافة إلى استثمار عائدات تعديل الأسعار في تطوير البنية التحتية وتحسين الاستقرار الكهربائي. من جهته، شدد الحلاق على ضرورة التشاركية بين الحكومة والقطاع الخاص في اتخاذ القرارات الاقتصادية.
يرى الدكتور عبد الرحمن محمد أن تعديل أسعار الكهرباء ضرورة اقتصادية لا مفر منها لضمان استمرارية القطاع، لكنه يأتي مع تحديات كبيرة تتعلق بقدرة المواطنين على تحمل الأعباء المالية المتزايدة. أما الخبير الاقتصادي محمد الحلاق فقال إن سوريا اليوم بحاجة إلى رؤية واقعية تحافظ على استقرار المجتمع.
يبقى واقع الكهرباء في سوريا معقدًا، حيث تتقاطع الحاجة مع القدرة الشرائية للأسر، خاصة محدودة الدخل منها، ليجد المواطن نفسه أمام معادلة صعبة بين التكلفة والضرورة، ما يجبره على الموازنة بين الحلول المؤقتة والحلول الاستثمارية طويلة الأمد لتأمين احتياجاته الكهربائية اليومية.